خطاب سيادة رئيس الجمهورية بمناسبة عيد الشباب والثورة الرابع 14 جانفي

 

بسم الله الرحمان الرّحيم

 

أيّها الشعب التونسي العزيز

نحتفل اليوم بالعيد الرابع للثورة والشباب.

وهي ثورةٌ فتحت أمام التونسيين والتونسيات أبوابَ أملٍ شاسعة ومكّنتهم من التميّز بين أقرانهم وجعلتهم يمثلون استثناءً نتيجةَ إدارتهم لمسار انتقالهم الديمقراطي بطريقة سلمية مدنية

إنّ الثورة وطبيعة المسار الانتقالي الديمقراطي التونسي لا يمكن فهمهما خارج سياق التاريخ التونسي الّذي سبقهما وبالأساس ثورة تحرير الوطن أولا وتحرير الإنسان التونسي ثانيا.

فالثورة الوطنيّة حررت تونس فأعطتها سيادتها واستقلالها. والثورة الثانية حررت قوى المجتمع من خلال الرقيّ بحقوق المرأة وتعميم التعليم والخدمات الصحية وتثبيت دعائم الدولة الوطنية العصرية بعد عقود الاستعمار وقرون التأخر.

وكان أن توفّرت لإنجاح هاتين الثورتين قيادة تاريخيّة متبصّرة مُشكّلة من رجال ونساء خالدين على رأسهم المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة رحمه الله.

ولقد أدى تحرير القوى الاجتماعية من خلال تعميم التعليم وتحرير المرأة خاصة إلى تغيير هائل في بنية المجتمع التونسي. فاتسعت مساحة الطبقة الوسطى في المجتمع وارتفعت أعداد المتخرّجين من الجامعات ومؤسسات التعليم المختلفة.

فخلق ذلك مشاكل من نوع مختلف وحاجيات من نوع جديد جعلت المجتمع الشاب المتعلّم والمتحفز للأفضل يتصادم مع نظام سياسي واقتصادي تجاوزته الأحداث.

كما أدى استشراء الفساد والتفاوت الاجتماعي والجهوي في السّنوات التي سبقت الثورة إلى مضاعفة حالة الاحتقان السياسيّة والاجتماعيّة.

وفي أواخر سنة 2010 كان المجتمع التونسي بشكل عام وشبابه بشكل خاص، قد بلغوا حدّا لم يعودوا فيه يقبلون بـ

. تواصل البطالة وخاصّة بطالة الشباب المتعلّم.1

. تواصل الحيف المتضخّم بين الجهات وبين الفئات الاجتماعيّة.2

. تواصل الظلم وغياب الحريّة.3

. تفاقم نسبة الفقر.4

هكذا اندلعت ثورة الكرامة بشكل عفوي وبدون قيادة سياسيّة أو توجّهات أيديولوجيّة فكانت ثورة مجتمع بأكمله وبدرجاتِ مُشاركةٍ مختلفة.

وذلك بهدف مواصلة مسيرة الرقي الوطني مع القطع مع السلبيات السياسية والاقتصاديّة

والاجتماعيّة التي تراكمت أمام مجتمع تزايدت حاجياته وكبرت طموحاته. مجتمع حطّم أغلاله حتّى تتحرّر أياديه للبناء ولحلّ المعضلات التي تمنعه من تحقيق قفزة التقدّم الثانية.

لقد دفع التونسيون ثمنا غاليا بدماء أبنائهم وبناتهم من الشباب خاصة لكي ينكسر القيد. فقد

 

استشهد منهم 321 وجرح ما يقارب 3727 ينضافون إلى القائمة الطويلة ممن لم يبخلوا على تونس بأرواحهم أو سلامة أجسادهم.

كما استشهد 16 عنصرا من بين الأمنيين والعسكريين.

ولم تتوقف تضحيات التونسيات والتونسيين عند 14 جانفي 2011. فبعد هروب الرئيس السابق بدأت معركة حماية الثورة من أية انتكاسة من خلال تحويلها إلى مسار تحول ديمقراطي دائم يضمن الحرية ويحول دون إنتاج جديد للاستبداد بأشكال جديدة أو قديمة.

وفي هذه المعركة الثانية سقط شهداء آخرون من وجوه نخبتنا السياسية من بينهم شهيد تطاوين لطفي نقض والزعيمان شكري بلعيد ومحمد البراهمي.

ولم تقف الأمور عند هذا الحدّ فقد كان الوطن يخوض في نفس الوقت معركة أخرى مازالت متواصلة لحماية الكيان الوطني من الارهاب. وفيها سقط على ميدان الشرف 69 من أبطال جيشنا وأمننا وجرح 183 إضافة ل4 شهداء و3 جرحى من المدنيين.

كانت مرحلة صعبة ومعقدة ولكن شعبنا العظيم اجتاز كل مراحلها بصبر وثبات. فلا يجب أن ننسى تضحياته ولا يجب أن نقصّر في مقام شهدائه أو جرحاه واستحقاقات عائلاتهم.

وها نحن اليوم في الذكرى الرابعة للثورة وبعد استكمال الجزء الأهم من بناء مؤسسات جمهوريتنا الثانية، نتأهب جميعا للعمل المضني والجدي بهدف حلّ المشكلات الأولية التي كانت دوافع للثورة.

إنّ هدفنا العام هو القضاء على أسباب الخوف والحاجة وبناء مقتضيات الأمن الإنساني الشامل الذي تبدو عبره في قوله تعالى : "فليعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف". صدق الله العظيم.

على المستوى السياسي، يمكن القول أن اعتماد دستورنا الجديد، والتوفق في تنظيم الانتخابات التشريعية والرّئاسيّة وبناء جزء هام من المؤسّسات الدّستورية قد أدى إلى تقدّم ملموس في مسيرتنا الديمقراطيّة.

كما أدّى إلى توفير شروط ممارسة الحريات العامة والفردية التي ناضلت من أجلها نخب الشعب طيلة عقود.

ولا بد من مواصلة العمل في هذا الاتجاه لتتحقق ديمومة المسار. فالتجارب الدولية تؤكد أن مراحل الانتقال الديمقراطي تبقى هشة في سنواتها الأولى. لهذا السبب، لابد من تعزيز المؤسسات والقوانين بالسلوكيات الملائمة والأفعال الملموسة وعن طريق حماية الإعلام الحر وتقوية مؤسسات المجتمع المدني.

كما يتوجّب لحماية مسار انتقالنا الديمقراطي في هذه المرحلة مواصلة منهجية الاستئناس بمشروعية التوافق الوطني لتدعيم شرعية الانتخاب الديمقراطي الحرّ.

وهي المنهجية التي ميزت التجربة الديمقراطية التونسية وأعطتها فرادتها وحمتها من الهزات والويلات.

هكذا أُسست تجربة الحوار الوطني لديناميكية توافق وطني استثنائية نشكر ونثني على من أطلقها أي الرباعي الراعي للحوار ومن ساهم فيها من الأحزاب الوطنية.

لقد انطلقت الثورة بهبّة جماعية. وهي اليوم تتوزع في صور مختلفة. فهي نص في الدستور. وهي مؤسسات. وهي حريات. وهي برامج. وهي برلمان منتخب. وهي إعلام حر. ومجتمع مدني نشط. وهي رئيس منتخب.

إنّ الثورة بمعناها المدني والعملي المتواصل وبمعناها التشريعي الإصلاحي الهادئ والتنفيذي الفاعل

 

تتنفس في كل مكان. ليست حكرا على فكرة واحدة. ولا حزب واحد أو شخص واحد.

إنّها صورة وطن. وطموح أمة. وبرنامج جمهوريتنا الثانية. لا خوف عليها سوى ممن يريدون احتكار صفتها لتقسيم التونسيين وابتزاز ضمائرهم.

إنّ دور رئيس للجمهورية هو أن يكون رمزا للوحدة بين جميع التونسيين، ساهرا على احترام الدستور، ضامنا لاستقلال الدولة واستمراريتها.

وبهذه الصفة فإن رئيس الجمهورية هو أحد حراس قيم الثورة الوطنية والاجتماعية والديمقراطية العصرية في إطار استمرارية الدولة وتواصل الحقب التاريخية السياسية التونسية.

وللنجاح في هذا الدور، لا بد من حماية الوطن والمواطن من أخطار العنف والجريمة المنظمة والإرهاب.

لهذا، سنولي كلّ الاهتمام لحماة الديار من قوات الجيش والأمن الأبطال ولسياستنا الخارجية التي ستعمل على خدمة مصالح تونس أولا، وفق البرنامج المتكامل الذي قدمناه سابقا.

ومن أوكد الأولويات في هذا المجال دعم قوات الأمن والجيش في الحرب ضد الإرهاب التي يخوضونها في مقدمة الصفوف بما يحتاجونه من قوانين حامية وتجهيزات فاعلة وإجراءات مادية واجتماعية في حجم المخاطر التي يتعرّضون لها هم وعائلاتهم. ذلك أن المتوفّر حاليا عل أهميته مازال يحتاج لتطوير وتحسين متواصل.

كما إنّ الحرب على الإرهاب تعني أنّه لا يمكن التسامح مع من يبرّر أو يشجع أو ينظّر له. وتعني أيضا أنّ كلّ إمكانيات الدولة والمجتمع العامّة والخاصة يمكن تسخيرها إذا اقتضت الضرورة.

ولكن النّجاح في هذه المعركة لن يكون مضمونا بدون توحّد قوى الأمة وتوافقها وتضامنها. فالأمن بالأساس يقوم على صحة الجسم الوطني الداخلي.

وإنني سأعمل ما استطعت لتحقيق شروط هذه الوحدة لأنها مفتاح الفوز بإذن الله.

ويتوجب علينا جميعا أن نثق في أنفسنا وفي قدراتنا ومستقبل بلادنا. وأن نتوقّف عن التشكيك في نخبنا وقادة الرّأي منا لأنّ الشك والريبة لا يلدان خيرا.

إنّنا مع مسار العدالة الانتقالية باعتباره كما تؤكّد الأمم المتحدة منهجية تضمن عدم تكرار أخطاء الماضي من خلال كشف الحقيقة عن الانتهاكات وإقامة للعدالة بإنصاف الضحايا وإثبات المسؤولية والمحاسبة تمهيدا للمصالحة بين مكونات المجتمع بما يحقق وحدة الدولة التي جعلني الدستور ضامنا لها.

ولكن الثورة ومقتضيات الانتقال الديمقراطي لن تستقيم فقط بالقضاء على أسباب الخوف من الاستبداد والإرهاب. فلا بد من مقاومة أسباب الحاجة أي الفقر والبطالة وعوائق التنمية الشاملة.

فمن نافل القول التسليم أنّ الوحدة الوطنية لن تكون ممكنة دون المساواة بين الجهات ودون التقليل من الفوارق الاجتماعيّة ومقاومة الفقر والبطالة وغلاء المعيشة والتهميش و"الحُڤْرة."

وسوف نعمل في حدود صلاحياتنا على تشجيع الحكومة لتذهب في اتجاهه وفق إمكانيات البلاد.

وباعتباري رئيسا لكلّ التونسيين، سأكون إلى جانب من يعتقد أن لا داعم له وسأكون صوتا لمن لا يسمع ورديفا لمن يعتقد أنّه ضحية للتهميش والعزلة.

في عيد الثورة والشباب الرابع، نستطيع اليوم أن نؤكد على المبادئ والقيم الوطنية التي نتفق جميعنا حولها. فالشغل حق والعمل واجب. وخلق الثروة محرك جهدنا الجماعي. والنجاح استحقاق والمساواة هدف دائم.

ومنها المساواة بين الرجل والمرأة. فالمرأة التونسية هي تاج تجربتنا وزهرة ديمقراطيتنا.

 والحريات العامة والفردية مصانة.

والظلم ولى بدون رجعة.

والخدمة العامة هي أعلى أنواع الالتزام.

والراية الوطنية فوق الجميع.

والمغرب العربي وطننا الثاني أمنه أمننا وقضاياه قضايانا.

وانحيازنا لقضايا الحق في الوطن العربي والعالم واجب في إطار المنظومة الدولية واحترام القانون الدولي ومراعاة موازين القوى الإقليميّة والعالميّة، وعلى رأس هذه القضايا قضيّة فلسطين الحبيبة.

إنّنا نتعاون جميعا لبناء دولة عصريّة ديمقراطية لشعب مسلم في أغلبيّته الساحقة يتمسك بأصوله ويتطلّع بقوة وطموح جارف ليلتحق بالأمم المتقدّمة.

ولن يتحقق هذا الطموح طالما لم تفتح أبواب الحرية ولم تتوافر الظروف المناسبة لإطلاق طاقات شبابنا. فبالشباب بدأت الثورة وللشباب يجب أن تكون.

فلا يجب أن تبقى وعودنا للشباب دون تنفيذ مصداقا لقوله تعالى : "يا أيّها الّذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" وإنّني على ثقة أن مجلس الشعب والحكومة الجديدة سيعملان بتعاون لتطوير برامج هادفة تجعل من حل مشاكل الشباب وتحرير طاقاته على رأس أولوياتها.

أيّتها التونسيات / أيّها التونسيّون

مع بداية اشتغال مؤسسات الجمهورية الثانية ستتحول ثورتنا إلى مسار طويل متسارع من الإصلاحات والإنجازات في كلّ المجالات. أملي أن نتعاون من أجل تحقيقها جميعا وأن يكون لي بعون الله نصيب معكم في جهادنا الأكبر من أجل رقي شعبنا التونسي الأبي.

"إنّ أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب"

صدق الله العظيم

أخيرا، لم يكن نجاح الثورة ممكنا لولا تضافر جهود عديدة. لذلك نشكر اليوم الحكومات المتعاقبة منذ الثورة والإدارة التونسية المخلصة لاجتهادها في حفظ توازنات البلاد الاجتماعية والأمنية والاقتصادية.

ونشكر الإعلام الحرّ ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات الوطنية الكبرى وكلّ من دفعه حبّه لعلم بلاده أن يقدّم شيئا خدمة لتونس في الظروف الصّعبة عندما يحتاج الوطن لأبنائه.

والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته

المكان : قصر قرطاج
التاريخ: 14 جانفي 2015
شارك :

آخر الأخبار

الأخبار ذات الصلة

الصفحات

Layout Settings