كلمة رئيس الجمهورية بمناسبة الذكرى الخامسة لعيد الثورة والشباب

بسم الله الرّحمان الرّحيم
أيّتها المواطنات، أيّها المواطنون
أيّها الحضور الكريم

ها قد مرّت خمس سنوات على انتصار ثورة الحريّة والكرامة الّتي نحتفي بها اليوم كمفخرة للشّعب التّونسي الّذي أبهر العالم ولا يزال بأن حوّل شتاء تونس بين 17 ديسمبر 2010 و 14 جانفي 2011 إلى ربيعٍ للحريّةِ والأملْ.
الأََمَلْ بأن نحفظ لهذه الثّورة عهدها ونفي بوعدها، الأَمَلْ بأَلاَّ نُخْطِئَ موعدنا مع التّاريخ ونُـثْـبـتْ للعالم بأنّ أنوار الحريّة يُمكّنها أن تُِضيءْ وأَنَّ أغصان الدّيمقراطيّة بإِمكانها أن يَشْتدَّ عودُها في تربةٍ عربيّة إسلاميّة قيل عنها خطأً أنّها لا تُـنْـبِِـتُ غير التّسلُّط والتّطرّف.
الأملْ بأن نَبنِي تُونسَ جديدةً تَحْضُنُ كلّ أبنائها وتُربّيهم على حقّ الإختلاف دون خلافٍ في حبّها والولاء لها، تَضمنُ حقوقهم وتفتح السّبل أمامهم وتُقنعهمْ بأنّ كلّ شيءٍ ممكنْ طالما تمسّكُوا بالأمل وتسلّحوا بالعمل.
أيّتها المواطنات، أيّها المواطنون
أيّها الحضور الكريم، 
يَتزامنُ احتفالنا بالذّكرى الخامسة للثّورة مع مرور سنة على تَقلُّدي مهام رئاسة الجمهوريّة بعد تكريمي بشرف الانتخاب الحرّ والمباشر لأوّل مرّة في تاريخ تونس من قبل الشّعب صانع الثّورة وصاحب السّيادة.
لذا أَرَدْتُ للمتي هذه بأن تكون في الآن معًا احتفاءًا بالثّورة واستخلاصًا للنّتيجة والعبرة واستشرافًا للمستقبل بعد انقضاء هذه الفترة من تكليفي بأمانة السّهر على مسيرة تونس ومصيرها.
وأَوَّلُ ما يتبادر إلى ذهني نتائج عمليّات سبر آراءٍ عدّة، أجنبيّة (كتلك التي قامت بها مؤسّسة جامعيّة أمريكيّة)، وأخرى محليّة، تلتقي كلّها رغم إختلاف مناهجها حول جملة من المؤشّرات.
وأَوَّلُ ما أَثلجَ صدري، إن صَحَّتْ هذه الدّراسات، هو أنّ 84% من التّونسيّين، فخورون بأنّهم تونسيّون وبأنّ الشّعور الوطني يتنامى ويترسّخ مقارنة باستقصاء أجراه نفس المصدر سنة 2013. 
وبأنّ مؤشّرات التّسامح الدّيني والثّقة في مؤسّسات الدّولة كرئاسة الجمهوريّة والجيش ورئاسة الحكومة كلّها ازدادت مقارنة بالفترة المذكورة. 
وتُشِيرُ دراسات محليّة إلى أنّ التّونسيّين متفائلون بنسبة 73,9 %، وَهُم يَرَوْنَ بأنّ الوضع الأمني في تحسّنٍ مطّرد وأنّ أهمّ مكسب تحقّق بعد الثّورة هو الحريّة. فيما ترى الأغلبيّة وهي محقّة أنّ أهمّ النّقائص تتمثّل في مشكلة البطالة وهشاشة الوضع الاقتصادي وضعف الأداء الحزبي.
والتحدث على الأحزاب يدفعني إلى توضيح مسألتين تتعلق الأولى بالوضع داخل نداء تونس والثانية بقرار عدد من الأحزاب مقاطعة موكب الإحتفال بهذه الذكرى العزيزة.
فعلا أسست نداء تونس ولكن منذ انتخابي رئيسا للجمهورية وطبقا للدستور في فصله 76 قدمت إستقالتي من رئاسة الحزب ولم يعد لي علاقة بحركة نداء تونس وإثر الأزمة التي عرفها الحزب ألحّ عليّ كل الفرقاء وعديد الشخصيات الوطنية التدخل، رفضت في البداية التدخل ثم قبلت به لأن القضية أصبحت شأنا وطنيا ولها تأثير على صورة تونس بالخارج وكلفت لجنة من الثقاة لرأب الصدع وقامت اللجنة مشكورة بالإتصال بمختلف الأطراف ووضعت خارطة طريق أنا باركتها ولكن الفرقاء لم يهتدو بها هناك من رفضها وحتى من قبلها فلم يعمل بما أقرته وفي إفتتاح المؤتمر التوافقي أكدت في كلمتي

 بأهمية إحترام التوافقات وخارطة طريق وأضيف أن هنالك فريق آخر انشق وقرر أن يكون وريث الحبيب بورقيبة، أنا أوضح أولا على الرغم من علاقتي الوطيدة بالحبيب بورقيبة، فبورقيبة قامة كبيرة في الكفاح في تحرير البلاد وفي بناء الدولة وتعصير المجتمع وأنا مثل الكثيرين تتلمذت على يديه وأنا مدين له و لكنني لست وريثه وثانيا لا وريث لي.

ومن أراد أن يكون حزبا جديدا فله ذلك ولكن التوصل إلى حل الخلافات وتجاوز الأزمات لا يتم بتعدد تكوين الأحزاب. واليوم أكرر ما قلته وأؤكد أن الحل في إحترام خارطة الطريق.
أما المسألة الثانية والتي أود التعرض كذلك إليها فتتعلق ببعض الأحزاب التي أعلنت عبر وسائل الإعلام مقاطعتها لهذا الموكب الرسمي إحتفالا بذكرى الثورة العزيزة إعتبارا أن الحكومات المتعاقبة لم تنجز أهداف الثورة، أعتبر أن هنالك خلط بين الحكومات ورئاسة الجمهورية فرئاسة الجمهورية هي رمز الدولة. لا علاقة لي بنداء تونس رغم أنني أنا من أسسه رفقة مجموعة ، وأنا في منصبي اليوم مكلف بإحترام الدستور وتشريعات الدولة. 
لا يـعـتـقـدنّ البعض بأنّني بصدد تجميل صورة الوضع وتلميعه. فالصّعوبات حقيقيّة والهِنَاتُ موجودة وبالإمكان أن نفعل أكثر وأفضل وأسرع. 
ولكنّنا في الخطوات الأولى على درب الدّيمقراطيّة والخطوات الأولى عادة ما ترافقها الهفوات والكبوات التي لا مفرّ من تداركها دون تلكُّــؤ.
نَحْنُ نُقرُّ بحقيقة الصّعوبات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الّتي زادها حدّةً وَقْعُ الضّربات الارهابيّة الغادرة التي ساهمت في تعطيل اقتصادنا وانكماشه.
والجميع يعلمُ أنّه بدون توفير الأمن للمستثمر والسّائح والعامل والمواطن يَصْعُبُ تحقيق شروط الإقلاع الإقتصادي.
لذلك تجنّدنا لِكَسْرِِ شوكة الإرهاب والقضاء عليه والشّعب التّونسي يُقرّ لنا بتسجيل بعض التّقدّم في هذا المجال، مع أنّ المعركة لازالت طويلة وتتطلّب منّا اليقظة الدّائمة ورصّ الصّفوف وحشد الطّاقات والإمكانيات والصّداقات لاجتثاث هذه الآفة الخبيثة من جذورها.
وعلى الجميع أن يدرك أنّ الرخاء الاقتصادي والرّفاه الاجتماعي والتّشغيل المأمول لشبابنا والنّهوض بالجهات الدّاخليّة، تقع في أعلى سلّم أولويّاتنا، لكنّها تظلّ رهينة التمسّك بالأمل ورفع وتيرة العمل والإسراع في سنّ القوانين والقيام بالإصلاحات الضّروريّة.
كما يتعيّن على الأطراف الإجتماعيّة التّعاقد فيما بينها على أُسس وفاقيّة صلبة.
ولقد عَمِلْتُ شخصيًّا على دعوتها إلى الحوار والتّوافق حتّى تَـبْنـيَ العقد الإجتماعي على قاعدة تلبية المطالب المشروعة مع ترشيدها. وسنواصل دعم هذا التّوجّه الوفاقي لأنّه أثبت سلامته وجدواه وبِهِ توصّلنا إلى حلّ المُعْضِلاتِ السّياسيّة الكبرى وحُزْنَا تقدير العالم وتكريمه.
ونحن عاقدون العزم على مواصلة الإصلاحات بنفس الإرادة الّتي مكّنتنا من بناء المؤسّســات، حتّى نضع المنوال التّنموي المناسب لمجتمعنا والقادر على دفع الاستثمار الدّاخلي والخارجي، وخلق الثّروات والتّحفيز على الإبداع مع التّعويل على أنفسنا أوّلاً وأساسًا.
إِنَّ الحكومة المنتخبة مدركة لهذه المهام وقد استفادت من تجربة سَنَتِها الأولى، وَهَا هِيَ قد أعادت تنظيم صفوفها من خـلال التّحوير الوزاري الأخير وهي تستحقّ كامل مساندتنا، وتحتاج دعم الشّعب وأحزاب الأغلبيّة البرلمانيّة والمـنـظـّمـــــات الوطنيّة حتّــى تواجه التّحديات وتحقّق النّجاحات المطلوبة.

وإنّي لَعَلَى يقين بأنّ سنة 2016 ستكون سنة الجرأة في الإصلاح والسّرعة في التّنفيذ وسنة الأمل والعمل رغم حجم الصّعوبات.

السّادة الكرام، أيّها الشّعب التّونسي العظيم،
يَحِقُّ لنا الإعتزاز بثورتنا أيًّا كانت التّحدّيات الّتي نواجهها.
فلقد استعادت تونس مشروعها الوطني ومسارها الإصلاحي وأصبح الشّعب ينعم بالحريّة، ولنا اليوم تعدّديّة سياسيّة فعليّة ومجتمعنا المدني صَلْبٌ وحيوِِيٌّ يُبادِرُ ويُراقبُ ويُشاركُ. والخلافات بيننا أضحت طبيعيّة تجد طريقها للحلّ سلميًّا.
ولا تُخيفنّكم الأزمات داخل الأحزاب ولا يَسْتَفِزَّنَكُمْ طموح كوادرها وقادتها، فهي ظواهر طبيعيّة، خاصّة في ظلّ ديمقراطيّة ناشئة ومشهد سياسي يظلّ في طور التّشكُّل رغم إفرازه لكتلتين رئِيـسِيَّـتَيْن توصّلتا للتّعايش رغم تمايز مَــشْــرُوعَـيْـهِــمَا.
وتَعَايُشِهِمَا هذا ثمرة من ثمار التّوافق الّذي أردناه منهجا لرَصِّ الصُّفوف في مواجهة الأخطار وتوحيدًا للكلمة حول أُمّهاتِ القضايا واعتصاما بحبل الوطن الواحد مناعة واستقرارا وعزّة له.
ولَكِنْ، التّوافق لا يعني التّماهي والانصهار والتّخلّي عن الثّوابت والمبادئ والأسُس الّتي تُشَكِّلُ هويّة كلّ طرف.
فلكلّ منهما جناحاهُ وبإمكان كُلٍّ مِنْهُمَا الطيران حرّا طليقا في الأجواء الّتي يراها مناسبة له. ولكنّهما مُطَالَبَانِِ بالطّيران في الاتّجاه نفسه عندما يتعلّق الأمر بمصالح تونس العليا.
إنّ ما أنجزته بلادُنَا بفضل إنتصار منهج التّوافق على درب البناء الدّيمقراطي المدني والتّداول السّلمي على السّلطة واحترام الحرّيات ونبذ العنف والتّطرّف لَهِيَ إنجازات عظيمة يحقّ لنا التّباهي بها.
ومَا تكريمُ الرّباعي الرّاعي للحوار بجائزة نوبل للسّلام إلاَّ مفخرةٌ لنا جميعا واعترافٌ أُممي بعبقريّة هذا الشّعب وقدرته على الخلق وابتداع الحلول وإعمال العقل والاعتدال ممّا يجعله مؤّهلاً عن جدارة لتبوُّء مكانِهِ بين الأمم الدّيمقراطيّة المتحضّرة.
لن تُرهِبَنَا التّحدّيات مهما عظُمت لأنّنا نَبْنِي بلادنا على أسُسٍ صلبة. فمجتمعنا متماسك ودولتنا مُتجذّرة مُتأصّلة في ضميرنا الجمعيِِ ويحقُّ لنا أن نطمح إلى العُلى تمامًا مثل شعوب العالم المتمدّن.
أيّها الحضور الكريم، شعب تونس الأبيّ،
إنّنا لمُقِرُّونَ العزم على استكمال بناء صَرْحِنا الدّيمقراطي بتفعيل الهيئات الدّستوريّة الّتي تمّ إقرارها وماضون على درب تعزيز الحرّيات الفرديّة لتشـييـد دولة المؤسّسات والمواطنة الحرّة.
ولقد بادرنا وفاءًا لتعهُّداتنا الانتخابيّة بتقديم مشروع قانون يُلغي القانــــون عدد 52 المؤرّخ في 18 ماي 1992 المتعلّق بالمواد المخـدّرة وتعويـضه بقانون جديد في إطار مُلائَمَةِ التّشريع التّونسي للإتّفاقات المصادق عليها ولأحكام الدّستور الجديد.
ويَقُوم هذا المشروع على مبدأ الوقاية قبل الزّجر واستبدال العقوبات السّالبة للحريّة (للمستهلك للمرّة الأولى) بعقوبات بديلة تعمل على الإصلاح والعلاج وإعادة الإدماج.
كما تضمّن المشروع أحكاما تتعلّق بتـقـنين طُرُقِ التّحرّي ووضع آليات للحماية وتكريس التّعاون الدّولي في مكافحة جرائم المخدّرات. 

ولا يغُرّنكم من يَدَّعِي أنّنا نُشجّعُ بهكذا قانون على استهلاك المواد المخدّرة.

وإنّما أردنا الإصلاح والتّدرج في العقوبات والعلاج والإدماج وليس الدّفع بشابّ اقترف خطأً لأوّل مرّة إلى غياهب السّجون والمجهول والقضاء على مستقبله دون منحه فرصة التّدارك والرّجوع إلى الطّريق القويم.


إن فتح الآفاق بالنّسبة للشّباب وإستنباط الحلول الكفيلة بحلّ مشكلة التّعطيل عن العمل الّتي يعاني منها ودَمْجِهِ في الحياة السّياسيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة، لَهِيَ من ألحِّ اهتمامــاتـنا. 
وهذه ليست مِنَّةً من أحد، فالشّباب هو الذي قام بالثّورة وحرّر البلد. 
لذا قرّرتُ عقد مؤتمر وطني حول الشّباب في الرّبيع القادم بمشاركة الآلاف منهم حتّى نَتَوَصّل بِهِمْ ومَعَهُمْ إلى وضع الاستراتيـجيّات والآليات الكفيلة الّتي من شأنها رفْع الحْيفِ عنهم وإدماجهم في بلدهم. وذلك حتى نَقِيهِمْ هبّات الرّياح الّتي تَعصفُ بقواربهم في البحر أو بعقولـــهم فتــــقودهم إلى اليَــأْس، فغسيل الأدمغة، ثمّ إلى ساحات معارك لا نَاقَةَ لهم فيها ولا جَمَلْ أين يتعلّمون فنون الموت والإجرام عِوَضَ الإقبال على الحياة والمساهمة في بناء تونس الجديدة وهي بلدهم الوحيد وهم مستقبلها الأوحد. 
واستئناسًا بميراثنا الإصلاحي وتجربتنا التّـنويريّة والروح التّحرّريّة لمجتمعنا وتيّاراته الفكريّة وانفتاح واعتدال أحزابنا، وانسجامًا مع ثورة الحة والكرامة، قرّرنا تكوين لجنة من المختصّين مهمّتها مراجعة النّصوص القانونيّة وعلى رأسها المجلّة الجزائيّة، حتّى تتلاءم مع الرّوح التّـحـرّريـّة الّتي وردت في الدّستور الجديد وإلغاء كلّ القوانين الزَّجْـريّة الّتي عفى عنها الزّمن ولم تعد تتلاءم مع روح العصر.
ولا ننسى أنّه بحلول يوم 23 جانفي سنستقبل ذكرى مرور 170 عامًا على إلغاء الرّق والعبوديّة. وعلى نفس خُطى هذه المبادرة الجريئة السّابقة وقتئِذٍ بعشرات السّنين على أعتى الدّيمقراطيات، يتعيّن علينا التّفكير في آليّات فعّالة لمقاومة كافة أشكال العنصريّة والتّمييز على أُُسسِِ المذهب والعرق و لون البشرة.
إنّ لتونس مسيرة إصلاحيّة تنويريّة طويلة متجذّرة في تاريخها وهي جزء من هويّتها.
ونحن إذ نواصل الخُطى على نفس درب الآباء المصلحين فإنّما نعيدها إلى طريقها التي كادت تحيد عنه في فترة ما ونصالحها مع ذاتها.
"إن أُريد إلا الإصلاح ما استطعتُ وما توفيقي إلا بالله عليه توكّلتُ وإليه أُنيب" (صدق الله العظيم). عاشت تونس حرّة منيعة أبد الدّهر. 
والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المكان : قصر قرطاج
التاريخ: 14 جانفي 2016
شارك :

آخر الأخبار

Layout Settings