كلمة رئيس الجمهورية بمناسبة إجتماع المكتب الدّائم لإتّحاد المحامين العرب

بسم الله الرّحمان الرّحيم
السيّد الأمين العام للمكتب الدّائم لاتّحاد المحامين العرب،
السيّد عميد الهيئة الوطنية للمحامين بتونس،
حضرات الأساتذة الأفاضل،
السيّدات والسّادة ضيوف تونس الكرام،
يسعدني أن ألتقي بكم وقد جئتم تشاركون زملائكم التونسيين وكل الشّعب التّونسي مشاعر الفرح والاعتزاز بفوز الرّباعي الرّاعي للحوار بجائزة نوبل للسلام لسنة 2015 وبالاحتفال بالذّكرى الخامسة لثورة الحريّة والكرامة.
إنّ في هذا التّتويج الأممي لتونس لإعترافاً دوليا بأنّ زهرة الدّيمقراطية يُمكن أن تُزْرَعَ وتَيْنَعَ في تُربة عربية إسلامية كثيرا ما قيل عنها بأنّها أرض جرداء لا تصلح لغير زراعة الاستبداد والتّطرّف والعنف.
ففي تتويج تونس هذا تشريف لكل العرب والمسلمين وتكليف لنا كشعب ودولة بمواصلة المشوار على نفس درب التّسامح والتّصالح والتّحاور والتّوافق.
ولقد عملت منذ عودتي إلى الحياة السّياسيّة إبّان الثّورة المباركة، التي سنحتفل خلال أسبوع بعيدها الخامس، على الانتصار لهذا النّهج وتغليبه على نَزعات التناحر والتّنافر والتّدافع والإقصاء.
والحقيقة أنّ إيماني بهذا النّهج أقدمُ وأرسخْ. فلقد كتبت بتاريخ 06 أفريل 1978 على صفحات جريدة الرّأي بعنوان "أسلم طريق" ما يلي: "الحوار مع الوطنيين المخلصين مهما كانت نزعاتهم حول أُمّهات القضايا يُجنّب البلاد مزالق اللّجوء إلى العنف مع ما ينشأ عن ذلك من توترات اجتماعية ومضاعفات سياسيّة.
إنّ إبداء رأي مخالف للرّأي الرّسمي ونقد الخطّة المتّبعة من طرف رئيس الدّولة والأغلبية الحاكمة لا يُعتبر بحال من الأحوال "عملا هدّامًا" و "صيدًا في الماء العكر" و "تآمرًا على أمن الدّولة" وما شاكل ذلك من تُهم. بل هو بالعكس من هذا تماما إذ يُعتبرُ ضروريا لضمان مناعة الدّولة ودوامها واستقرار النّظام فيها وهو عمل جِدُّ مفيد للأغلبية الحاكمة نفسها. إنّ كلّ مواطن مخلص يرى أنّ الحوار هو أسلم طريق لخدمة الصالح العام وضمان مناعة الدّولة".
إنّ إيماني لعميق بأنّنا في تونس أمّة وسط تأخذ من كلّ خير بطرف، تستنير بالعقل وبه تهتدي إلى التّعقّل والاعتدال والإصلاح، وبه ترفض المغامرات غير المحسوبة والانقياد للعواطف الجيّاشة التي غالبا ما تُعْمِي البصيرة.
السّادة والسيّدات، ضيوفنا الكرام،
أودُّ التّذكير بالدّور الرّائد الذي لعبه المحامون التونسيون الذين وجدناهم دوما في مقدّمة النّضال الوطني سواء أيّام الاستعمار أو في مرحلة بناء الدّولة بعد الاستقلال أو في فترة الاستبداد عندما تجنّدوا دفاعا عن الحرّيات والدّيمقراطيّة. ولن ينسى التّونسيّون أنّ المحاماة التّونسيّة كانت في مقدّمة الدّفاع عن الثّورة منذ انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008، ثمّ في ديسمبر 2010 عند انطلاق شرارتها من سيدي بوزيد والقصرين.
ولقد أسهم المحامون بطريقة فعّالة في نجاح مسار الانتقال الديمقراطي السّلمي وقبل ذلك في عمليّة انتقال السّلطة بعد سقوط النّظام عبر المشاركة في المجلس الوطني لحماية الثّورة، ثمّ في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثّورة والإصلاح السّياسي والانتقال الدّيمقراطي. ولقد قدّمت المحاماة

 التّونسيّة شهيدها، فقيد الوطن شكري بلعيد، ونحن اليوم ملتزمون بكشف الحقيقة حول هذه القضيّة، ولن يهدأ لنا بال ما لم نتوصّل إلى معرفة من خطّط لهذه الجريمة النّكراء وموّلها وتسليمه للعدالة حتى ينال جزاء ما اقترفه من شنيع الجُرم.

وبخصوص الحوار الوطني فإنّ دور المحاماة التونسية لم يقتصر على الهيئة الوطنية للمحامين وعميدها بل شمل الرّابطة التّونسيّة للدفاع عن حقوق الانسان التي كان على رأسها الأستاذ عبد الستار بن موسى. كذلك لا بدّ من الإشادة بالدّور الهام الذي قام به العميد شوقي الطبيب وكافة المحامين الذين كانوا دوما في الموعد في كلّ المحطّات المفصليّة التي شهدتها تونس.

السيّدات والسّادة رعاة القانون والعدالة،
"العدل أساس العمران" قالها إبن خلدون أحد عظماء هذا الوطن. وليس بخفيّ عنكم أنّه بدون قانون يكون الناس أمامه سواسية كأسنان المشط لا مجال للحديث عن العدل والعمران. أؤمن بهذه الحقيقة كَمُحَامٍ كرّس حياته المهنية والسّياسيّة لِتَمَثُّلِهَا والدّفاع عنها.
وليس هذا بغريب عن هذه التُربة التي أثمرت أحد أقدم دساتير العالم، دستور قرطاج، الذي شَهِدَ له "أَرسطو"، أحد عباقرة الفكر الانساني، بأنّه من دون سائر الدّساتير القديمة، التي عرفتها الإنسانية في زمانه، الأسلم والأقوم بحيث أنّه جنّب قرطاج آفتَيْ الفتنة والاستبداد بفضل ضمانه لسيادة القانون وتقيّده بمبدإ الانتخاب.
والحقيقة أنّكم من سادة العارفين بأنّنا ألغينا الرّق والعبوديّة منذ 170 عاما (بتاريخ 23 جانفي 1846) وبأنّ دستور عهد الأمان يُعَدُّ من أعرق الدّساتير في العالم الإسلامي وأَوَّلُهَا مبادرةً إلى سنّ مبدإ المساواة بين المواطنين أيًّا كانت أجناسهم ودياناتهم. كما أنّه فَصَلَ بين السّلط الثلاث ومكّن المجلس الأكبر (البرلمان) من صلوحيات وضع القوانين وتنقيحها ودرس مشاريع الميزانيات وحتّى عزل وليّ الأمر (الباي) إن ثبُتت مخالفته للدّستور وتعويضه بوليّ العهد.
تعرفون أيضا أنّنا خضنا معركتنا من أجل الاستقلال مُغَلِّبِِينَ قُوّة القانون على قانون القوّة. فناضلنا من أجل استقلال تونس مُستندين إلى حقّ الشّعوب في تقرير مصيرها، شاهرين في مواجهة فرنسا حينها منظومة الحقوق الأساسيّة الكونيّة التي كانت تدّعي تمثُلها وتمثيلها.
وما إنْ تحرّرنا من ربقة الوصاية والاستعمار حتى قمنا بثورة أصيلة أداتها القانون. فمجلّة الأحوال الشّخصية التّي تمّ إصدارها بتاريخ 13 أوت 1956 انخرطت في المسيرة الاصلاحية التّحرّرية الطّويلة للشّعب التّونسي. وهي تُعدُّ في نظر التّونسيين بمثابة الدّستور الذي لا يرتضون التّراجع عنه قيد أُنملة، بل يهدفون دوما إلى تأصيله وتعزيزه بالمزيد من الإصلاحات والضمانات.
فلقد أَسَّست هذه المجلّة لما نُسمّيه اليوم بالنّموذج التّونسي بأن منحت للمرأة وضعا متميّزا عن مثيلاتها في العالم العربي فألغت تعدّد الزّوجات وقنّنت الطّلاق وفرضت موافقة الزّوجين لإبرام عُقود الزّواج وأتاحت المساواة بين الجنسين في أغلب المجالات.
ولقد ساهمت سياسات تحديد النّسل ونشر التّعليم وتحديثه والنّهوض بقطاع الصحّة وإلغاء نظام الأحباس ومقاومة النّعرات القبلية والجهل والخرافة في تأصيل التقليد الحداثي التّونسي وتجذيره.
والحقيقة أنّ الثّورة التّونسيّة ونجاح مسار الانتقال الدّيمقراطي السّلمي، الذي كُلّل بإسناد جائزة نوبل للسّلام لسنة 2015 للرّباعي الرّاعي للحوار، لم تكن كلّها ممكنة لولا استثمار دولة الإستقلال في

الإنسان ومُراهنتها عليه ولولا تراكم نضالات المصلحين والحقوقين والنّساء وكافة شرائح المجتمع التّونسي على مدى الحقب والأجيال.

حضرات الضّيوف الكرام،
إنّنا ماضون اليوم على نفس هذا الدّرب الإصلاحي، غايتنا تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها ثورة الحريّة والكرامة وبناء مجتمع حرّ ودولة متقدّمة منيعة، ووسيلتنا الحوار والتّوافق وجمع الكلمة ورصّ الصفوف في مواجهة الأخطار المحدقة بنا.
ونحن على العزم ماضون في استكمال بناء الصّرح الدّيمقراطي بتركيز مختلف الهيئات الدّستورية الكفيلة بإرساء دولة القانون والمؤسّسات. ولقد آلَيْنا على أنفسنا أن نعمل دون هوادة على تغيير منظومة القوانين الزّجرية التي ورثناها عن عهود التّسلّط وسنِّ قوانين جديدة تتلاءم مع روحِِ الدّستور الجديد الذي يضمن للتّونسيين حرّياتهم الفرديّة والجماعيّة ويصون سلامتهم الجسديّة ويحفظ كامل حقوقهم في ظِلِّ دولة قوامها سيادة الشّعب والقانون.
ضيوفنا الأفاضل،
على المستوى العربي والدّولي نحن نعمل دون كلَل حتّى تسترجع تونس مكانتها بين الأمم من خلال مساندة قضايا الدّيمقراطية والأمن والسلام في العالم وفي وطننا العربي داعمين للحُلول السّلمية التّوافقية حيث تُوجد الأزمات كتلك التي تُعاني منها دُول شقيقة على غرار ليبيا واليمن وسوريا، وذلك تفاديا للتّدخلات الأجنبية التي كثيرا ما يحلّ بمحلّها الخراب والفوضى.
و بالرّغم من محدودية إمكاناتها فإن تونس لا تتردّد اليوم في الانخراط في كلّ مبادرة جدّية لمحاربة الإرهاب، تلك الآفة
التي كلّفتنا العديد من الشّهداء والكثير من الخسائر ونحن مُقرّين العزم على التّصدّي لها ودحرها مهما كلّفنا ذلك من تضحيات وسنتمكّن من اجتثاثها من أرضنا الطيّبة لا محالة بإذن الله. 
وفي الأخير أشكر لكُم مُجدَّدًا تضامنكم مع بلدكم الثّاني تونس واحتفائكم بنجاحاتها فنحن منكم وأنتم منَّا وكلّنا جسدٌ واحد يضيركم ما يضيرنا ويَسُرّكم ما يسُرّنا.
قال الرسول الأكرم عليه الصّلاة والسلام " مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم كمثلُ الجسد الواحد، إِذا اشتكى منه عُضو تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى". 
والسّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.

المكان : تونس العاصمة
التاريخ: 07 جانفي 2016
شارك :

آخر الأخبار

Layout Settings